لما يقارب السنتين، خضعت ولاية الخرطوم لسيطرة قوات الدعم السريع، وكانت منطقة شرق النيل من أبرز معاقلها. تكيّف السكان مع هذا الواقع كما يفعل المدنيون في مناطق النزاع، حيث تتلاشى القدرة على المقاومة، ويتبدّل الولاء وفقاً لمن يفرض سلطته، سواء كان جيشاً، دعماً سريعاً، ميليشيات إسلامية، أو مرتزقة دارفوريين.
لكن ما أعقب انسحاب الدعم السريع كان مفاجئاً وصادماً، وجرى بإشراف مباشر من الجيش ووالي الخرطوم المعيّن من قِبله.
البدايات: كيف أُشعل فتيل العنصرية؟
بعد انسحاب الدعم السريع من ولايتي الخرطوم والجزيرة، بدأت حملة منظمة استهدفت سكان الكنابي – غالبيتهم من دارفور، كردفان، وجبال النوبة – بتهم التعاون مع الدعم السريع. رغم أن كثيرين منهم يدعمون الجيش و”القوات المشتركة” بقيادة مني أركو مناوي وجبريل إبراهيم، لم يشفع لهم ذلك.
ميليشيات يقودها أبو عاقلة كيكل – المنشق عن الدعم السريع – اقتحمت قرى الكنابي بولاية الجزيرة، مدعومة بوحدات من الجيش. وارتُكبت خلال ذلك انتهاكات مروعة، وسط تحريض من جهات عنصرية أبرزها منظمة تُعرف بـ”النهر والبحر”، وبتواطؤ من النظام الحاكم بقيادة عبد الفتاح البرهان.
الذروة: من التنميط إلى التطهير العرقي
في الأيام الأخيرة، تصاعد خطاب يصف سكان العاصمة من غرب السودان بـ”المتعاونين مع الدعم السريع”، رغم أن هذا التوصيف يُوجَّه بشكل جماعي وعنصري، بغض النظر عن المواقف الفعلية. في المقابل، احتُفي بأبناء الشمال والوسط، حتى من تعاون منهم مع الميليشيات، كما حدث مع كيكل الذي رُوّج له كبطل قومي بعد تحالفه مع الجيش.
مقاطع مصورة تُظهر جرافات عسكرية تهدم منازل قرية “الخيرات” بشرق النيل – التي يسكنها مواطنون من دارفور والنوبة – رغم امتلاكهم مستندات قانونية. يبدو أن الجيش يستخدم سلطته الحالية للبدء في “تطهير” العاصمة، تمهيداً لما سماه البعض “عاصمة بيضاء” لا تضم إلا المنحدرين من الشمال النيلي.
الوالي يقود التهجير القسري
أحمد عثمان حمزة، والي الخرطوم المعين من الجيش، ظهر يقود بنفسه عمليات الإزالة والتهجير، في سابقة تكشف البعد السياسي المنظم خلف الحملة. قرية الخيرات ليست عشوائية، بل أسست رسميًا قبل ربع قرن، ويقطنها جنود قاتلوا مع الجيش وسقطوا في المعارك.
لكن انتماء سكانها العرقي غلب على انتمائهم الوطني، في معادلة تعكس عمق العنصرية داخل مؤسسات الحكم الحالية.
إلى أين يتجه السودان؟
عمليات الهدم والتهجير لا يمكن فصلها عن مشروع سياسي أوسع يستهدف إعادة هندسة التركيبة السكانية للعاصمة، على أسس عرقية. هذا المسار ينذر بتحول الخرطوم إلى نموذج جديد من الفصل العنصري، تدعمه مؤسسات الدولة وتنفذه ميليشيات محلية، تحت غطاء القانون والدولة.
إنها لحظة مفصلية في تاريخ السودان، تستدعي وقفة وطنية عاجلة قبل أن تتحول البلاد إلى نموذج جديد من الأبارتهايد الإفريقي.