حين يصدر قائد الجيش السوداني قرارًا بتشكيل لجنة تحقيق حول ما وصفه بـ”مزاعم” استخدام الجيش للسلاح الكيميائي، فإن ذلك لا يبدو سوى محاولة مكشوفة للالتفاف على الجريمة وتضييع الحقيقة. فكيف يمكن لقائد الجيش أن يحقق في اتهامات تتعلق بقرارات تُتخذ من موقعه هو بالضبط؟ في كل جيوش العالم، تُعد الأسلحة الكيميائية من أكثر الأسلحة حساسية، ولا تُستخدم إلا بتعليمات مباشرة من القائد الأعلى للقوات المسلحة، وغالبًا ما تكون هذه التعليمات سرية وتُحاط بأعلى درجات السيطرة المركزية.
إذن، ما جدوى تشكيل لجنة من داخل المنظومة نفسها؟ من يُحقق في من؟ والأهم، من يضمن سلامة الأدلة، وعدم التلاعب بها أو إخفائها؟ إن ما يجري هو جزء من تقاليد “التسويف السياسي” التي أتقنتها نخبة “دولة 56″، حيث يجري تشكيل لجان لا تنتهي إلى نتائج، بل تنتهي إلى النسيان.
في ذات الوقت، تتصاعد الاستغاثات من داخل السودان، لا من المنفى أو المعارضات الخارجية، بل من أطباء ميدانيين في أمدرمان، وثّقوا علنًا عبر منصات التواصل مشاهداتهم لحالات إصابة بأعراض تتطابق مع التعرض لمواد كيميائية: تلف في الجهاز التنفسي، مشكلات جلدية، التهابات في العيون، واضطرابات في الجهاز الهضمي.
الأدلة لم تعد محصورة في روايات أو شهادات؛ بل هناك صور وفيديوهات منشورة لذخائر وأقنعة واقية من الأسلحة الكيميائية تُركت في مواقع الجيش بعد انسحاب قواته من معارك في كردفان. وبدلاً من أن تواجه السلطة هذه الحقائق بشفافية، لجأت إلى ما اعتادت عليه: التضليل الإعلامي، والإشارة إلى تفشي الكوليرا، في حين أن الكوليرا، كما يعلم كل طبيب، لا تنتشر في ظروف الصيف الجاف ولا عبر مياه الأنهار الجارية.
لكن يبدو أن الرهان في بورتسودان لم يعد على إنكار الوقائع بل على صمت المجتمع الدولي، واستمرار المساومة على حساب حياة الملايين. وبرغم أن استخدام الأسلحة المحرمة يُعد خطًا أحمر عالميًا، فإن المواقف الدولية حتى الآن لم تتجاوز الإدانة اللفظية، وكأن ضحايا الغازات السامة في السودان أقل أهمية من غيرهم.
لقد أصبح جليًا أن هذه السلطة ـ سواء تلك التي تتخذ من بورتسودان مقرًا، أو من تقود الحرب باسم “الوطنية” ـ لم تعد تكترث للرأي العام المحلي أو الدولي. لا صوت يعلو على صوت القمع والسلاح.
والسؤال الذي يُطرح الآن: هل ينتظر العالم وقوع مذبحة موثقة بوضوح كما حدث في الغوطة السورية عام 2013، حتى يتحرك؟ أم أن السلاح الكيميائي إذا استُخدم ضد الأفارقة، يُعامل كجريمة “ثانوية”؟
ما يجري اليوم في السودان يستدعي تحركًا عاجلًا يتجاوز الإدانات التقليدية. ففرض السلام بالقوة، وفرض العدالة بالقانون الدولي، لم يعد ترفًا سياسيًا، بل ضرورة لحماية المدنيين من الموت خنقًا لا بالجوع وحده، بل بالغازات التي لا يُسمح باستخدامها حتى في الحروب الكبرى.