تحليل سياسي وأمني – تأسيس
سيطرة قوات الدعم السريع على الجزء السوداني من المثلث الحدودي بين السودان وليبيا ومصر تمثل تطوراً عسكرياً ذا دلالة استراتيجية تتجاوز مجرد التقدم الميداني في صحراء نائية. هذا التحول يُسلّط الضوء على خمسة مسارات رئيسية، تشمل: الأمن الإقليمي، التوازنات داخل الحرب السودانية، طبيعة التحالفات الإقليمية، ونفوذ الفاعلين غير الدوليين، والبعد الدولي في ملف الهجرة والحدود.
أولاً: دلالة عسكرية – دعم سريع يعزز قبضته على “الهلال الحدودي”
من الناحية الجغرافية، تُضاف هذه السيطرة إلى سلسلة من النجاحات الميدانية التي حققتها قوات الدعم السريع على حدود السودان الغربية والجنوبية، مما يعني عملياً سيطرتها على حدود تمتد من دارفور وتشاد إلى إفريقيا الوسطى وجنوب السودان وصولاً إلى ليبيا.
وبهذا، تقترب “الدعم السريع” من تطويق القوات المسلحة السودانية من عدة جبهات، وتهدد فعلياً الجبهة الشمالية – خاصة في ظل استهداف منطقة الدبة بالطائرات المسيّرة مؤخراً.
كما أن هذا الانفتاح على محور الصحراء الشمالية، وهو مسرح تقليدي للتهريب والهجرة والذهب، يمنح “الدعم السريع” مكاسب لوجستية واقتصادية، فضلاً عن تسهيل خطوط الإمداد والتواصل مع الحلفاء الإقليميين، سواء كانوا ليبيين أو غيرهم.
ثانياً: تواطؤ أم تحالف؟ الغموض في موقف “الجيش الليبي”
الاتهامات المتبادلة بين الجيش السوداني وقوات الجنرال خليفة حفتر تعكس تصدعاً في التوازنات الإقليمية. ففي حين ينفي الجيش الليبي مشاركته في الهجوم، تؤكد الخرطوم أن كتيبة سلفية تابعة لحفتر شاركت في التنسيق مع الدعم السريع.
اللافت هنا هو تزامن الهجوم مع انسحاب الجيش السوداني “طوعاً” من المثلث الحدودي، ما يثير التساؤلات:
- هل جرى الإخلاء لتفادي فتح جبهة جديدة شمالاً؟
- أم أن السيطرة فُرضت بالقوة وتم التراجع لتجنب إحراج عسكري؟
وفي كلتا الحالتين، يظل التنسيق بين “الدعم السريع” وعناصر داخل ليبيا – سواء رسمياً أو عبر وسطاء – احتمالاً وارداً بشدة، خاصة في ظل اتهامات سابقة من الأمم المتحدة بوجود خطوط دعم بين حفتر وحميدتي في تجارة السلاح والذهب وتهريب الوقود.
ثالثاً: نقطة ضعف استراتيجية للجيش السوداني
انسحاب الجيش السوداني من منطقة حيوية مثل مثلث جبل العوينات يطرح إشكاليات تتعلق بالجاهزية والاستراتيجية، خصوصاً مع إشارات مسؤولين عسكريين إلى أن الهجوم يهدف إلى تشتيت الجيش في الشمال، ومنع تقدمه في كردفان، وهو ما أكده اللواء المتقاعد أمين مجذوب.
وفي ضوء ذلك، يمكن فهم هذا التطور كجزء من حرب استنزاف متعددة الجبهات، تهدف إلى:
- منع الجيش من حسم المعارك في كردفان.
- تهديد شمال السودان (الولاية الشمالية).
- فتح مسارات دعم جديدة للدعم السريع من الحدود الليبية.
رابعاً: تحذير سوداني وتحفّظ ليبي: أزمة دبلوماسية مفتوحة
رد وزارة الخارجية السودانية بوصف تدخل حفتر بأنه “عدوان خارجي” و”انتهاك للقانون الدولي” يعني أن الخرطوم تنوي تصعيد المسألة دبلوماسياً، سواء عبر الأمم المتحدة أو الاتحاد الإفريقي أو حتى الجامعة العربية.
في المقابل، يظهر البيان الليبي رغبة في احتواء التصعيد إعلامياً، دون نفي كامل للاتهامات، مع تحذير ضمني من تكرار “الاعتداءات السودانية” على الدوريات الليبية.
خامساً: المثلث الحدودي كمنطقة هشاشة إقليمية
المثلث الحدودي، رغم طبيعته القاسية، ظل دائماً نقطة تداخل سكاني وأمني وتجاري بين ثلاث دول، وقد شهد نشاطات مثل:
- تهريب البشر إلى أوروبا.
- التجارة في الذهب والوقود.
- عبور المرتزقة والأسلحة.
في السابق، كانت “قوات الدعم السريع” نفسها تعمل بدعم أوروبي في مكافحة الهجرة عبر عملية الخرطوم، لكن بعد الحرب، انقلبت المعادلة لتصبح ذاتها هي المسيطرة على نفس الطرق، لكن لخدمة أجندة مختلفة.
خاتمة:
سيطرة “الدعم السريع” على المثلث الحدودي هي أكثر من إنجاز ميداني – إنها رسالة إقليمية. فالموقع يفتح الطريق نحو الحدود المصرية، ويعزز اتصالات الدعم السريع بالفاعلين الإقليميين، ويضع الجيش السوداني أمام مأزق استراتيجي جديد في الشمال.
هذا التطور يعكس أيضاً تحول “المسرح الحدودي” إلى أداة في الصراع الداخلي السوداني، تُدار بتداخلات خارجية وبما يهدد أمن دول الجوار، ويعقّد فرص التوصل إلى تسوية شاملة في ظل خارطة حرب تتسع يومًا بعد آخر.