إن من يقصف شعبه بالسلاح الكيماوي، لا يُستغرب منه أن يقصف شاحنات الإغاثة التي تحمل الغذاء والدواء، ويفجّرها ويغتال طواقمها!
كل ما يحدث أمام أعيننا وأعين العالم ليس انحرافًا عابرًا أو خطأً عسكريًا عنيفاً له علاقة بالحرب اللعينة الجارية، بل هو تنفيذ بأثر رجعي لفتاوى الدم التي استباحت قتل ثلث الشعب ليحيا الثلثان تحت سلطة الذل والطاعة. وما يفعله جيش البرهان والكيزان اليوم، ليس سوى وجهٍ سافر لفتاوى الدم وإبادةٍ ممنهجة ضد الشعب السوداني، تُمارس بلا قناع، وفي قلب الجوع!
فجر أمس، الثلاثاء الثلاثين من مايو، وبينما كانت عيون الجوعى متعلقة بسماء الرجاء، دوّت أصوات الطائرات المسيّرة في محلية الكومة، شرق الفاشر – وليس صدفة أنها إحدى المناطق التي ضُربت من قبل بالكيماوي – ولكن هذه المرة قُصفت قافلة إنسانية تابعة لبرنامج الأغذية العالمي، فتبعثرت الشاحنات، وتبعثر معها الطعام والسلام. قُتل أربعة من سائقيها ومساعديهم بدمٍ بارد، لا لأنهم حملوا سلاحًا، بل لأنهم حملوا خبزًا. لم يكونوا مقاتلين، بل رُسلَ حياة، ذهبوا ليسندوا الجياع، فعادوا جثثًا تئن تحت ركام الشاحنات.
هذه الجريمة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، ما دامت تُرتكب باسم الوطن والسيادة و (الاستقرار)، وما دام الجيش قد تحوّل إلى أداة كيزانية بالكامل لقتل وإبادة المواطنين العزّل.
لم يكن الاستهداف عشوائيًا، بل مقصودًا، في سياق سياسة ممنهجة تجعل من الجوع سلاحًا، ومن المساعدات رهينة. وهو قصفٌ لا يستهدف فقط قوافل الإغاثة الإنسانية، بل يستهدف فكرة السلام، فمن يوجّهون السلاح ويمتلكون قراره، يقولونها صراحة: لا حياة لمن لا يخضع، وإنهم قادمون على جماجم الأبرياء، بالكيماوي، أو الجوع، أو الكوليرا!
ما حدث في الكومة جريمة حرب كاملة، كما نصّت عليه المادة الثامنة من نظام روما الأساسي، وخرقٌ صارخ لاتفاقيات جنيف، لكنه أيضًا – وهذا الأشد فتكًا- جريمة ضد الضمير العالمي، الذي ظل متفرجًا أمام جرائم العصابة الإسلامية التي تُبيد الشعب السوداني بالأسلحة المحرّمة، وأسلحة الحرمان والجوع والأمراض، من أجل أن تعود إلى السلطة مرة أخرى باغية وباقية على رؤوسهم!
إنها ليست حربًا على خصم عسكري، بل إبادة ضد المدن والأرياف، تجويعًا، وقصفًا، وحصارًا، لإعادة رسم الخريطة السياسية والسكانية بما يخدم بقاء سلطة عسكرية كيزانية تؤمن بأن بقاءها مرهون بفناء الآخرين. لقد صار الغذاء خطرًا، والإغاثة تهديدًا، لأن النظام يرى في كل شحنة حياة بذرة مقاومة، وفي كل لقمة (كرامة) لا يقبلها.
الكارثة لا تكمن في وقوع الجريمة فقط، بل في اتساع الفجوة بين الفعل والعدالة. فحين يُقصف الغذاء والدواء، تنكسر كل المعاني. لا سلام يمكن أن يُبنى على أنقاض الأمعاء الخاوية، ولا سلطة يمكن أن تُقام فوق جماجم الجوعى الأبرياء، ودماء الساعين لإغاثة من تبقّى منهم.
إن قصف الشعب بالسلاح الكيماوي، واستهداف شاحنات برنامج الأغذية العالمي، هو إعلانٌ صريح بأن الحياة لم تعد مُرحّبًا بها في ظل سلطة البرهان، وهي سلطة دموية تتخذ من الموت سياسةً ممنهجة، ومن الجوع أداةً لحكمها. وإذا لم يتحرك الضمير الدولي الآن، فإننا على أعتاب فصلٍ جديد من المجاعة المسلحة، يُكتب فيه الجيش المُختطِف نهاية شعبه بيده.
السكوت عن هذا العدوان، هو اشتراكٌ في الجريمة. وكل سلاح كيماوي يضرب مدينة أو قرية، أو صاروخ يضرب شاحنة إغاثة، لا يصيبها وحدها، بل يصيب ما تبقى من إنسانية في هذا العالم.
أنقذوا أهل السودان من يد البرهان والكيزان.