مقدمة: انكشاف التناقضات
في لحظة حرجة من توازنات الإقليم، انفجرت مجددًا التناقضات الحادة داخل المشهد السوداني، بعد أن أعلنت الحركة الإسلامية السودانية، ومعها ميليشيا “كتائب البراء بن مالك”، تضامنها الكامل مع إيران ضد إسرائيل، ورفعت شعار “راية المقاومة” في وقتٍ تحافظ فيه القيادة العسكرية العليا، ممثلة في الفريق أول عبد الفتاح البرهان، على علاقات تعاون استخباري وأمني مع تل أبيب. ما كان خفياً أصبح علنياً، وما كان يُدار بتكتيكات مزدوجة، بدأ يتآكل تحت ضغط الاصطفافات الإقليمية.
أولاً: البعد العقائدي والرمزي — الإسلاميون وإيران
رغم الفوارق المذهبية الجوهرية بين التيار السني المتشدد الذي تمثله الحركة الإسلامية السودانية، والطابع الشيعي للنظام الإيراني، إلا أن العداء المشترك تجاه إسرائيل لطالما شكّل جسرًا عقائدياً رمزياً بين الطرفين. فقد أعلنت الحركة الإسلامية السودانية، عبر أمينها العام علي كرتي، دعمها “غير المشروط” لإيران، في لهجة تقارب ما يُوصف بـ”الجهاد التعبوي”، داعية إلى تأسيس جبهة إسلامية عالمية.
هذا التحشيد العقائدي يعبّر عن العودة إلى شعارات مرحلة “التحالف الجهادي” بين الخرطوم وطهران في تسعينيات القرن الماضي، حين تحولت السودان إلى محطة عبور للأسلحة الإيرانية باتجاه غزة، واستُخدم مجمع اليرموك للتصنيع العسكري كذراع إمداد استراتيجي لطهران في أفريقيا.
ثانيًا: كتائب البراء بن مالك — جهاد مزدوج أم ازدواج في الهوية؟
إعلان قائد “كتائب البراء بن مالك”، المصباح طلحة، وقوفه إلى جانب إيران، يأتي في سياق سلوك مستمر لهذه الكتائب الجهادية، التي تقاتل إلى جانب الجيش السوداني ضد قوات الدعم السريع، بينما لا تنتمي رسميًا للمؤسسة العسكرية. هذا الموقف يكشف عن ازدواجية خطيرة: فالكتائب الموالية للجيش تعلن مواقف خارج سلطة القيادة المركزية، وتخوض الحرب بمرجعية أيديولوجية تتعارض جذريًا مع التوجهات الإقليمية للحكومة الحالية.
بمعنى أوضح، تقاتل “كتائب البراء” إلى جانب قيادة تعتبر حليفة لإسرائيل، لكنها ترفع راية الجهاد مع إيران ضد العدو نفسه. هذا التشظي لا يعبّر عن تنوع تكتيكي، بل عن صراع مرجعيات يهدد وحدة المعسكر الداعم للجيش.
ثالثاً: موقف البرهان — البراغماتية المسلحة
منذ لقائه الشهير بنتنياهو في أوغندا عام 2020، ظهر عبد الفتاح البرهان كقائد عسكري منفتح على التطبيع مع إسرائيل، مدفوعاً برغبة في نيل الشرعية الدولية والدعم العسكري والتقني. لكن الحرب ضد قوات الدعم السريع فرضت عليه العودة إلى الحضن الإيراني، فتدفقت الطائرات المسيّرة من طهران، ومعها دعم استخباراتي وتقني يعزز قبضة الجيش على بورتسودان والمجال الجوي.
هذه البراغماتية المسلحة، رغم واقعيتها، وقعت في فخ التناقض: فكيف يمكن لحكومة تعقد اتفاقات “إبراهيم” وتدعو إلى استثمارات إسرائيلية، أن تعتمد في سلاحها على دعم إيران؟ وكيف يمكن لقائد يتعاون مع الموساد أن يغض الطرف عن ميليشيات ترفع شعارات “الموت لإسرائيل” وهي تقاتل باسمه؟
رابعاً: “المأزق الإقليمي” — ما بعد الاصطفاف
الحرب بين إسرائيل وإيران، بما تحمله من تصعيدات إقليمية، فرضت على السودان أن يختار بين تحالفين متصارعين في الوقت نفسه. لكن الواضح أن السودان، أو على الأقل سلطته في بورتسودان، يسير في اتجاهين متناقضين في وقت واحد، وهو ما يُضعف موقعه على المستوى الإقليمي، ويحول أراضيه إلى مسرح تنافس لوكلاء يتجاوزون الحدود الجغرافية.
قد يؤدي هذا الانقسام إلى:
- إرباك أجهزة الدولة وتآكل قدرتها على اتخاذ موقف موحد.
- فقدان المصداقية أمام الحلفاء الدوليين (إسرائيل، أميركا).
- تصاعد نفوذ الإسلاميين المسلحين، وفرضهم أجندة متطرفة على حرب يُفترض أنها “معركة جيش وطني”.
خامساً: المستقبل المنقسم — انهيار الاستراتيجية أم تعدد مراكز القرار؟
تدل الوقائع الحالية على انقسام حاد داخل المعسكر الداعم للجيش بين:
- قيادة عسكرية تحاول ترميم شرعيتها عبر التطبيع والتعاون مع الغرب.
- إسلاميين يحلمون باستعادة مشروع “التمكين” عبر الحرب والاصطفاف العقائدي.
- ميليشيات جهادية (مثل كتائب البراء) تمتلك سلاحاً وميداناً وتأثيراً إعلامياً.
إن هذا الوضع يهدد وحدة المعركة ضد قوات الدعم السريع، بل ويخلق بيئة خصبة لصراع داخلي مؤجل قد ينفجر بين الجيش وهذه الكتائب لاحقًا، إن لم يتم تقييدها أو إعادة دمجها تحت مظلة سياسية واضحة.
خاتمة: السودان في مرآة أزماته
إن الخلاف في الموقف من حرب إيران وإسرائيل ليس مجرد تباين في التصريحات، بل هو كاشف جذري لأزمة الهوية السياسية والأمنية في السودان ما بعد الثورة. إذ لم يعد بالإمكان الفصل بين معركة الجيش ضد قوات الدعم السريع، وبين الصراعات الداخلية التي بدأت تلتهم معسكره من الداخل.
ففي لحظة يُفترض أن تتوحد فيها الجهود لوقف الحرب، يرفع حلفاء البرهان راية “المقاومة العالمية” ويتوعدون إسرائيل بالجهاد، بينما لا يزال قائدهم يتلقى الدعم الإيراني بسكون، ويخاطب الغرب بلغة الإصلاح والديمقراطية. هذا التناقض، إن لم يُحسم، سيكون قنبلة سياسية موقوتة في قلب الدولة السودانية الجديدة — إن قُدر لها أن تقوم.