في خضم الفوضى الإقليمية وتداعيات الحرب السودانية المستمرة منذ أكثر من عام، تتصاعد المخاوف الأمنية على طول المثلث الحدودي بين السودان، مصر، وليبيا، حيث أصبحت المنطقة مسرحًا خطيرًا لتهريب السلاح، والمقاتلين، والمهاجرين، ما دفع الجيش الليبي إلى إعلان حالة الاستنفار الدائم في الجنوب الشرقي للبلاد.
الإعلان الأخير للجيش الوطني الليبي عن إحباط محاولة تهريب أسلحة عبر الحدود المشتركة، وما رافقه من مطاردة مسلحة وانفجار مركبة مهربين، يعكس ليس فقط هشاشة الرقابة الحدودية، بل أيضًا تعقيد الشبكات العابرة للحدود التي تدير تجارة السلاح والبشر تحت غطاء الصراع الإقليمي.
أولًا: السودان مصدر السلاح والمقاتلين في صحراء بلا سيادة
تشير التقارير الصادرة من “شعبة الإعلام الحربي” في ليبيا إلى أن المركبة التي تم استهدافها كانت قادمة من عمق الحدود السودانية، مرورًا بالأراضي المصرية نحو الجنوب الليبي، محملة بكميات ضخمة من الأسلحة والذخائر. ورغم عدم تحديد الجهة المالكة للشحنة، فإن السياق السياسي يشير إلى احتمال ارتباطها بالحركات المسلحة السودانية أو مليشيات متمردة تنشط في غرب السودان ودارفور.
ويُعتقد أن تزايد استخدام هذه الطرق مرتبط بالفوضى الأمنية في السودان، لا سيما مع توسع الجماعات الجهادية والعابرة للحدود مثل “كتائب البراء بن مالك”، وانتقال سلاح الطائرات المسيّرة والعتاد الثقيل بين أطراف الحرب.
ثانيًا: المهاجرون السودانيون ضحايا شبكات التهريب
لا تقتصر الكارثة على تهريب السلاح، بل تمتد إلى أزمة المهاجرين غير الشرعيين، كما كشفت كتيبة “سبل السلام” عن إنقاذ 85 مهاجرًا سودانيًا تُركوا في الصحراء لمدة ثمانية أيام. وأوضحت الصور والتقارير الميدانية أن هؤلاء كانوا في أوضاع إنسانية مروعة، وأن بينهم نساء وأطفال تم التخلي عنهم وسط الرمال القاحلة.
هذه الحوادث لم تعد معزولة، بل تتكرر بشكل شبه أسبوعي، ما يؤكد وجود شبكات تهريب بشر من السودان باتجاه ليبيا، بعضها متورط في أنشطة إجرامية أو حتى سياسية، ويُشتبه في استخدام بعضها لتغطية نقل مقاتلين وأسلحة عبر قنوات الهجرة غير الشرعية.
ثالثًا: اشتباك سياسي – أمني: ليبيا بين حفتر وإيطاليا وإسرائيل
على الجانب الليبي، تسعى قيادة الجيش الوطني بقيادة حفتر إلى استغلال هذه التطورات لتعزيز شرعيتها دوليًا، وذلك من خلال عقد لقاءات مع قادة عسكريين إيطاليين لبحث دعم القوات البحرية وتأمين الحدود. ويأتي هذا في سياق التنافس الدولي على مناطق النفوذ جنوب المتوسط، وسط تقارير إسرائيلية عن قلق متزايد من تسلل شحنات إيرانية عبر السودان إلى ليبيا ومنها إلى شمال أفريقيا.
إن التعاون الأمني بين ليبيا وإيطاليا يُعد جزءًا من محاولة أوروبية لتقليص تدفقات الهجرة ومنع تسرب السلاح من جنوب الصحراء، وهو ما يفسر مستوى الدعم التقني واللوجستي المتزايد للقوات الليبية في الكفرة وسبها.
رابعًا: مصر في المنتصف.. شريك صامت؟
رغم أن التهريب يتم عبر حدود مصر الغربية مع ليبيا، إلا أن القاهرة لم تصدر أي تعليق رسمي بشأن هذه العمليات. ويعتقد بعض المحللين أن السلطات المصرية تغض الطرف عن بعض التحركات عبر الحدود الغربية، سواء لأسباب استخباراتية أو لدورها غير المعلن في النزاع السوداني، حيث تدعم الجيش السوداني بقيادة البرهان، المتهم باستخدام الأسلحة الإيرانية في الصراع، والتي قد تتسرب أيضًا إلى دول الجوار.
خامسًا: المدنيون السودانيون.. بين المطرقة والسندان
على الأرض، يبقى المدني السوداني هو الضحية الأضعف في هذه المعادلة المعقدة. مع ازدياد الاعتقالات التعسفية والإعدامات خارج القانون بحق من يُشتبه بانتمائه إلى الدعم السريع أو الحركات المتمردة، يعيش آلاف السودانيين حالة من النزوح المستمر. كثيرون يهربون عبر طرق التهريب ذاتها التي تستخدمها شبكات السلاح، معرضين أنفسهم للموت في الصحراء، أو للاعتقال، أو حتى للاستغلال على يد عصابات الجريمة العابرة للحدود.
خاتمة: صحراء بلا سيادة ومأساة مستمرة
في ضوء هذه التطورات، تصبح الحدود بين السودان، مصر، وليبيا، أخطر خطوط التماس الجغرافي والسياسي في المنطقة. فراغ السيادة، والتقاطعات بين مصالح الفاعلين العسكريين (حفتر، البرهان، حميدتي)، والدور الخفي لإيران وإسرائيل، حولوا هذه المناطق إلى بؤر تهريب وساحات تصفية حسابات بالوكالة، في حين تستمر المأساة الإنسانية للسودانيين بعيدًا عن كاميرات العالم.