بقلم إسماعيل هجانة
العلمانية والدين: تفكيك التضليل السياسي وإعادة الأمور إلى نصابها
تقول الأستاذة شمائل النور في تعليقها على خطاب محمد حمدان دقلو (حميدتي):
“حميدتي في خطابه اعتبر أن ما تم إنجازه في نيروبي خاطب المسكوت عنه منذ الاستقلال، مؤيدًا العلمانية ومرحبًا بالتحالف مع عبد العزيز الحلو، وقال: ‘كنا مغشوشين بالعلمانية’، ثم عاد وقال: 17 رمضان ذكرى تأسيس قوات الدعم السريع، لذلك ‘بدر’ دي حقتنا!”
هذا التصريح يفتح بابًا لنقاش أعمق حول العلمانية في السودان، وكيف يتم تصويرها في الخطاب السياسي العام. فمن جهة، يعترف حميدتي بأن التضليل الذي مارسه الإسلام السياسي حول العلمانية كان خداعًا ممنهجًا، ومن جهة أخرى، لا يزال الخطاب الديني يستخدم كأداة تعبئة سياسية.
هذه الإشكالية الجوهرية في المشهد السوداني تكشف أن العلمانية ليست العدو الحقيقي، بل العدو هو التوظيف السياسي للدين لخدمة المصالح السلطوية. ومن هنا، يصبح من الضروري تفكيك المغالطات المنتشرة حول العلمانية وإعادة تعريفها كدعامة أساسية لضمان العدالة والتعددية في الدولة.
العلمانية ليست ضد الدين، بل ضد توظيفه سياسيًا
لطالما تم تصوير العلمانية على أنها عدو للإسلام، وكأنها تهدف إلى اقتلاع الدين من جذوره أو محاربته، وهذه الرواية ليست إلا نتاجًا لدعاية الإسلام السياسي، التي صنعت هذا التقابل الزائف بين العلمانية والإسلام لتحقيق أغراض سلطوية، حيث يتم استغلال المشاعر الدينية لتبرير الهيمنة السياسية وإسكات أي أصوات معارضة.
لكن الحقيقة هي أن العلمانية ليست في جوهرها ضد الدين، بل ضد توظيفه سياسيًا لأغراض الهيمنة والسلطة.
العلمانية تحمي حق الاعتقاد للجميع، فهي لا تفرض دينًا على أحد، ولا تمنع أحدًا من ممارسة شعائره، لكنها تفصل بين الدين والدولة لضمان عدم استغلال العقيدة لتحقيق مكاسب سياسية أو قمع الحريات.
كيف شوَّه الإسلام السياسي مفهوم العلمانية؟
الإسلام السياسي، كأيديولوجيا قائمة على استغلال الدين لتحقيق مكاسب سياسية، سعى إلى وضع العلمانية في مواجهة مباشرة مع الإسلام، مستخدمًا خطاب التخويف والتكفير والتضليل لإقناع الناس بأن العلمانية تهدف إلى القضاء على الدين وإقصائه من المجتمع.
الهدف من هذا التضليل بسيط:
إبقاء المجتمعات في حالة استقطاب دائم، بحيث يصبح أي نقد للإسلاميين أو لسياساتهم بمثابة حرب ضد الإسلام نفسه.
إضفاء شرعية دينية على مشروعهم السياسي، بحيث يُنظر إليهم على أنهم “حماة الدين” ضد “المؤامرة العلمانية”.
قمع المعارضين السياسيين والديمقراطيين، بحجة أنهم “يعملون ضد الإسلام”، في حين أن الخلاف معهم ليس دينيًا، بل سياسيًا بالأساس.
هل يمكن للعلمانية والإسلام التعايش؟
بالتأكيد، ويمكن إثبات ذلك تاريخيًا وواقعيًا:
🔹 الدولة العثمانية نفسها، في أواخر عهدها، طبقت نظامًا شبه علماني، حيث تم تنظيم العلاقة بين الدين والدولة وإقرار بعض الإصلاحات المدنية، مثل قانون الحقوق المدنية الذي ساوى بين المسلمين وغير المسلمين في بعض الجوانب.
🔹 تركيا اليوم، رغم التحديات، تظل نموذجًا للدولة التي حاولت الموازنة بين العلمانية واحترام الدين، حيث يُسمح للمساجد بالعمل بحرية، ويُحترم حق الأفراد في ممارسة دينهم.
🔹 في تونس، نجحت التجربة الديمقراطية في التوفيق بين الإسلام والعلمانية، حيث يتعايش الإسلام كمصدر روحي مع قوانين مدنية تحترم جميع الأديان والاتجاهات الفكرية.
🔹 حتى في الدول الغربية التي تعتمد العلمانية، يتمتع المسلمون بكامل حقوقهم الدينية، حيث تُبنى المساجد بحرية، ويُكفل للمسلمين حقهم في ممارسة شعائرهم وفقًا للقانون.
العلمانية لا تفرض على أحد أن يترك دينه، لكنها تمنع استخدام الدين كأداة للتمييز أو الاستبداد. وهي بذلك أكثر عدالة من أنظمة الإسلام السياسي، التي تحاول فرض تفسير واحد للإسلام على الجميع، حتى داخل المجتمع المسلم نفسه.
لماذا السودان بحاجة إلى علمانية حقيقية؟
السودان بلد متنوع دينيًا وإثنيًا وثقافيًا، وإذا أردنا بناء دولة حديثة قائمة على العدل والمساواة، فليس أمامنا إلا تبني نظام علماني يكفل للجميع حقوقهم.
العلمانية تعني دولة تحترم الإسلام والمسيحية وكل الأديان، دون تمييز أو إقصاء.
العلمانية تحمي الدين من التلاعب السياسي، بحيث لا يصبح وسيلة بيد الأنظمة الاستبدادية أو الجماعات المتطرفة.
العلمانية تضمن أن الدولة تعمل لخدمة جميع المواطنين، وليس لخدمة فئة دينية معينة على حساب الآخرين.
الخاتمة: العلمانية ضمان للحقوق، لا تهديد للدين
الخلط المتعمد بين العلمانية والإلحاد، وتصويرها كعدو للإسلام، هو جزء من مشروع الإسلام السياسي الذي يقوم على خلق أعداء وهميين لتبرير وجوده في السلطة.
لكن الحقيقة أن العلمانية تكفل حرية الدين، وتحميه من أن يُستخدم كورقة سياسية، وهي الضامن الحقيقي لأن يتمكن كل فرد من ممارسة عقيدته بحرية، بعيدًا عن الاستغلال السياسي والتوظيف السلطوي.
🔹 إذا كنا نريد سودانًا قائمًا على العدالة والمساواة والتعددية، فإن تبني نظام علماني هو الحل. ليس لأنه ضد الدين، بل لأنه يحمي الدين من التشويه السياسي، ويحمي المجتمع من الاستبداد باسم العقيدة.
المعركة ليست بين الإسلام والعلمانية، بل بين الحرية والاستبداد.
١٦ مارس ٢٠٢٥
جبل نُكر – جبال النوبة