بقلم نجم الدين دريسة
إن هذه الحرب رغم قسوتها وتداعياتها وشدة وطأتها علي الشعوب السودانية قاطبة لكنها قادت إلي سبر أغوار الأزمة السياسية التاريخية في السودان والتعاطي مع جذورها بشكل اكثر عمقا فالبرغم من نجاح ثورة ديسمبر المجيدة إلا أن ماكينزمات الدولة القديمة المركزية القابضة والعميقة عطلت عملية الإنتقال وواجه المشروع الوطني الخاص بتأسيس وبناء الدولة السودانية صعوبات وتعقيدات وتحديات علي رأسها ما يعرف بالجيش السوداني الموروث عن الاستعمار قبل ميلاد ما يعرف بالدولة السودانية بثلاثة عقود من الزمان والذي ظل عرضة للاختراق والاختطاف والارتهان للدولة المصرية وبالتالي كان مخلب قط للتدخل المصري السافر في الشأن الداخلي للسودان تتحكم في مصائره كيفما شاءت عبر الانقلابات العسكرية حتي لا ينعم السودان بالاستقلال الكامل.
سبعة عقود من الزمان وفكرة بناء وتأسيس الدولة بالمعنى الحديث لم تكتمل والمؤسف ان الذي حدث في السودان من حداثة بالطبع لم يرتبط البتة بالتطور الروحي والفكري والمفاهيمي للمجتمعات بل أحدث استلاب بسبب تزييف التاريخ وضعف واهتراء المناهج التي انتجت ما يعرف بالدولة الوطنية بعد الاستقلال هي دولة مأزومة بالدرجة القصوي مما نتج عنها الشخصية السودانية بتناقضاتها المختلفة وممارستها المنكفئة علي الاطر الضيقة القبلية والاثنية والطائفية الأمر الذي قاد الي غياب ما يعرف بالاندماج الوطني القومي مما يستدعي بالضرورة العمل علي إنتاج وعي قادر علي بعث مفهوم المواطنة والدولة القومية لا سيما وان فكرة بناء الدولة مرتبطة بالرؤي الأخلاقية والقانونية حتي لا تنتشر الفوضي وتعم الانتهاكات لحقوق الإنسان الاساسية الشئ الذي يخلق نتائج خطيرة علي رأسها خطاب الكراهية والعنصرية والانقسام الاجتماعي وهي كلها مهددات للوحدة الوطنية.
المؤسف ان معظم المؤسسات التي انتجتها دولة ما بعد الاستقلال (الأحزاب والتنظيمات السياسية والخدمة المدنية والقوات النظامية والجامعات ..الخ) ليست ذات تأثير علي المجتمع وبالتالي فشلت في إحداث اي تغيير في الواقع السوداني بل صارت تتمتع بامتيازات دون أن تقدم ما يفيد الدولة وبالتالي صارت هي نفسها أزمة صاحبت تعثر تأسيس الدولة والمضحك انه بالرغم الفشل الذريع لهذه المجموعات المرتبطة بالدولة ظل يطلق عليها لقب (نخب) وهي في حقيقتها أدمنت الفساد وجرت البلاد الي دوامة من العنف وظلت علي الدوام تحني ظهرها للدولة المصرية وكانت عالة علي مقدرات وموارد وثروات الوطن .. علي حساب بناء وتمكين المجتمع توظيف الموارد والاستغلال الامثل لها علاوة علي المنازعات التي صاحبت التجربة الدستورية والتي اضاعت حقوق الوطن والمواطن.
من براثن هذا الواقع البائس لسودان ما بعد الاستقلال تخلق ونشأ تحالف السودان التأسيسي كأول تكتل وطني يضع أسس لبناء دولة سودانية تقوم علي أسس جديدة وعادلة ومستدامة ويحمل في طياته التنوع والاختلاف الذي يمثل أطياف عريضة من الشعوب السودانية بخلفياتهم الفكرية والسياسية وانتماءاتهم الجغرافية والاجتماعية والفئوية علاوة علي القوي الناهضة والحديثة يمثلوا أصحاب المصلحة الحقيقيين اتفقوا علي وثيقة تأسيسية ودستور انتقالي خاطب جذور الأزمة السياسية في السودان وقدم اطروحات واقعية تلامس قضايا وهموم الشعب السوداني وبالطبع هذا التحالف يمثل الكتلة الحرجة لانها قائمة علي حوامل إجتماعية وسياسية ومرتكزات فكرية قادرة علي إحداث تغيير جوهري في بنية الدولة السودانية وتأسيس منصة صلبة للانعتاق من تشوهات الماضي وارتياد آفاق مستقبل تسوده قيم الانسنة المتمثلة في الحرية والسلام والعدالة والكرامة والعيش الكريم وسيكون الثاني والعشرين من ٢٠٢٥م تاريخ ميلاد وتأسيس دولة سودانية ديمقراطية فدرالية علمانية قائمة علي المواطنة كأساس للحقوق والواجبات الدستورية وحق للسودانيين الاحرار ان يحتفوا بيوم التأسيس الذي غادروا فيه الصورة الزائفة والقمع التاريخي وإنهاء عقود من الظلم الممنهج.